الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}. (40: يس) وهذا كتاب يضم من العلوم والمعارف ما لا يقع تحت حصر، ولا ينتهى عند حد، إذ كان موضوعه العالم العلوي وما فيه من أفلاك، وما يدور في هذه الأفلاك من نجوم وكواكب.. والشمس والقمر، هما أظهر ما في العالم العلوي المنظور لنا من نجوم وكواكب.. بحيث يقعان في نظر كل إنسان، ويدنوان من مفهوم كل ذى نظر، فلا يكاد يوجد إنسان على ظهر هذا الكوكب الأرضى إلا وعنده علم عن الشمس والقمر، على اختلاف في درجة هذا العلم، وعلى تفاوت بعيد بين القدر الذي يقع لكل إنسان منه، إذ بينما يكون هذا العلم عند بعض الناس مجرد نظر جامد بارد، ولا يحرك شعورا، ولا يثير إحساسا، إذ هو عند آخرين مثار خيال، ومبعث وجدان، ومنطلق إدراك، وجامعة علم وفن وفلسفة..!فإذا نظر الإنسان إلى الشمس والقمر، نظرا قائما على الدرس والحساب، أسلمه هذا النظر إلى ما وراء الشمس والقمر، مما حواه العالم العلوي من أجرام ظاهرة يراها رأى العين، أو خفية يلتمس لها الوسائل التي يراها من خلالها..وبهذا النظر المستند إلى الحسبان أو الحساب، عرف الإنسان كثيرا من أسرار هذا العالم، ورأى أن الشمس والقمر الذين يبدوان وكأنهما سيّدا الأجرام السماوية، ليسا إلا إشارتين باهتتين تطلّان من هذا العالم على الأرض، وأنهما بالنسبة لهذا العالم أشبه بحصاتين في سفح جبل الهملايا بالهند مثلا..!فإذا بلغ الإنسان اليوم من العلم بحيث يضع قدميه على القمر، فليس ذلك إلا خطوة قصيرة من مسيرة طويلة العلم، في مسابح هذا العالم الذي لا حدود له..وإذا قصر نظر الإنسان عن أن يرى ما وراء الشمس والقمر في العالم العلوي،فليقم نظره على ما بين يديه من العالم الأرضى.. حيث يجد وجه الأرض وقد نجمت فيه نجوم أشبه بنجوم السماء وكواكبها..{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ}..ففى الأرض نجم، وشجر..والنجم، هو النبات الذي لا ساق له، مما يظهر على وجه الأرض، كالحشائش، ونحوها..والشجر هو ما قام على سوق وما اتصل بهذه السوق من فروع، وأغصان وأوراق، وأزهار، وثمار..والنجم من نبات الأرض، يمثّل الكواكب والنجوم المنثورة في السماء، والتي تبدو في مرأى العين صغيرة باهتة..والشجر، يمثل الشمس والقمر في ظهورهما، وكبر حجمهما..وإذا كان جريان الشمس والقمر بحسبان، فإن قيام النجم والشجر من النبات، بحسبان أيضا، إذ أن كلّا منهما في يدالقدرة الإلهية، قائم في محراب الولاء، والخضوع، والسجود، للّه رب العالمين.. وأنه كما في العالم العلوي مجال فسيح النظر والكشف عن علوم لا حدود لها، فكذلك في عالم النبات، نجمه، وشجره- علم لا ينتهى أبدا.. {وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ}.ثم، إنه إذا كان في الناس من لا يرى هذا التفصيل في العالم العلوي أو الأرضى، فإنه لن يكون في الناس أبدا من لا يرى السماء جملة، أو الأرض جملة..{وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ}.. فالسماء مرفوعة كالمظلة فوق الناس، بلا عمد تقوم عليها، وإنما يد القدرة هي التي تمسك بها، وتقيمها على ميزان دقيق لا ينحرف قيد أنملة: {وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ}.أي أقامها، ووضع لها حسابا دقيقا، وميزانا مضبوطا تجرى عليه أمورها.. وقوله تعالى: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ} هو دعوة إلى أن يقيم الناس أمرهم في التعامل مع هذه العوالم على العدل والإحسان، فلا ينحرف بهم النظر عن مواقع الحق منها، فذلك ضلال وخسران للميزان الذي وضعه اللّه سبحانه وتعالى في أيديهم، وهو عقولهم التي من شأنها أن تضبط مسيرتهم في الحياة، كما تضبط السماء دعائمها بهذا الميزان الذي وضعه اللّه سبحانه وتعالى لها..وفى قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ}- إشارة إلى أن هذه الأرض، هي في خلافة الأنام، وهم الناس، وأن معهم الميزان الذي يضبطون به أمور الأرض، أشبه بذلك الميزان الذي وضعه اللّه سبحانه لضبط السماء وعوالمها..وفى هذا تكريم للإنسان، ورفع لقدره، وإعطاؤه حكم هذه الأرض بالميزان الذي معه، وهو العقل.. وهو بهذا الميزان استحق أن يكون خليفة اللّه في الأرض.. فإذا لم يقم أمرها على ميزان الحق والعدل والإحسان، اضطرب أمره، وفسد حاله، وساء مصيره..{فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ} أي أن هذه الأرض التي وضعها اللّه للأنام، وأقامها على هذا الوضع- قد هيأها اللّه سبحانه لتكون مأوى صالحا لحياة الإنسان، فأخرج منها فاكهة ونخلا ذات أكمام..والأكمام: جمع كمّ، وهو الجراب الذي يضمّ طلع النخل، الذي يتكون منه الثمر..{وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ}..معطوف على قوله تعالى: {فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ}- أي وفيها الحبّ ذو العصف والريحان..{وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} هو الحبّ الذي يؤكل كالحنطة وغيرها..والعصف، هو أوعية هذا الحب التي تنفصل عنه عند نضجه، فتكون حطاما وهشيما، كما في قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}..أما الريحان، فهو ذلك النبت الطيب الريح.. وهو إشارة إلى كل نبت طيب ريحه.. وفى هذا إشارة إلى أن الإنسان ليس مجرد حيوان يطلب حاجة الجسد من طعام وشراب وحسب، وإنما هو كائن أسمى من عالم الحيوان، لا يقف عند مطالب الجسد، بل إن لروحه مطالب لا تقل عن مطالب الجسد، وحاجته إلى ما يقيم وجوده..فالريح الطيب ينعش النفوس، ويغذّى الأرواح..وفى التعبير القرآنى بكلمة: {والريحان} عن النبت الطيب الريح، إشارة إلى أن اتجاه هذا النبت إنما هو إلى الروح.. فالريحان والروح من مادة واحدة لفظا، ومعنى!! وبعد هذا العرض الكاشف لرحمة الرحمن، وقدرته، وقيومته على هذا الوجود، علوه، وسفله، وخلقه الإنسان، وقد علمه البيان، ووضع بين يديه الميزان الذي يزن به الأمور، ويفرق به بين خيرها وشرها- بعد هذا يجىء قوله تعالى مخاطبا الكائنين اللذين لهما وجود ظاهر على هذه الأرض، ولهما مجال فسيح فيها، وصراع محتدم بينهما على الخير والشر اللّذين في كيانهما.. فيقول سبحانه: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ}..فالخطاب هنا من الحق سبحانه وتعالى، إلى عالمى الجن والإنس، إذ هما- كما قلنا- الكائنان المكلّفان، بما لهما من عقل وإدراك. وهما اللذان يحاسبان، ويثابان، أو يعاقبان.والآلاء: جمع إلى، على وزن معى، وألى على وزن على وهى النعم..والاستفهام هنا تقريرى، إذ كانت نعم اللّه ظاهرة، تلبس كل ذرة في هذا الوجود.. حيث أن الوجود نفسه، هو نعمة بالنسبة العدم..عن ابن عمر، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن على أصحابه فسكنوا، فقال: «ما لى أراكم سكوتا؟ للجنّ أحسن جوابا لربها منكم..».قالوا: وما ذاك يا رسول اللّه؟ قال: «ما أتيت على قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} إلا قالت الجن: ولا بشىء من نعم ربنا نكذب..».وعن جابر بن عبد اللّه، قال خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فقرأ سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: «لقد قرأتها على الجن، ليلة الجن، فكانوا أحسن ردودا منكم.. كنت كلما أتيت على قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} قالوا: ولا بشىء من نعمك ربّنا نكذب.. فلك الحمد..».وقد استدل بهذا الحديث على أن السورة مكية، لأن ليلة الجن التي يشير إليها النبي صلى الله عليه وسلم كانت قبل الهجرة، وذلك كان بوادي نخلة حيث بات النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في طريق عودته من الطائف إلى مكة، بعد أن عرض دعوته على ثقيف بالطائف، فردوه، ولم يقبلوا منه.. اهـ.
|